لا ملائكة على هذي الأرض

لا ملائكة على هذي الأرض.. بل أطفال و أمهات يسكنون فينا و يقودوننا إلى الأشخاص الصح…
احتفظت بصداقاتي الحقيقية من الطفولة كجواهر لا تقدر بثمن: كانت زبيدة، ميس، ديما و هنادي أخوات لي و لم يكنّ في يوم ما فقط صديقات.
علمتني الحياة أن أحتفظ بالصادقين و أن أحاول-قدر الإمكان- مشاهدة الجانب المضيء في كل شخص، فلم أكره يوماً، هذا سر سعادتي و الحب لا يوّرثك غير الحب…
تسألني طفلتي كيف تفعل ذلك، و أحكي لها حكاية إبريق الحلوى:
كنتُ في السابعة عندما كسرت أبريق الحلوى في بقالية طه جارنا..
حملت في يدي مصروفي ليرة سوريّة واحدة و أردت شراء أربعة قطع من السكاكر الملّوّنة.. قفزت درج دكانه قفزاً.. كان يبيع إحدى الجارات، فلم يلتفت لي.. ثم دخل زبون آخر، فثالث و أنا أقف أنتظر دوري..
قلت له:
- عمو أريد أربع قطع سكاكر و وضعت الليرة على طاولته..
و كيما يبدو بمظهر الحنون أمام جارتنا أم وائل.. قال لي : خذيهم من الأبريق..
مددت يدي إلى إبريق الحلوى الزجاجي، و أملته لأحصل على السكاكر.. و فيما أعيده ارتطم بقوة ببراد المثلجات الموضوع عليه.. كان الصوت قوياً كفاية ليلتفت طه الذي انتهى للتو من توديع زبون جديد…
- كسرته أيتها الشقية.. كسرت الأبريق؟
- لم أقصد..
- يجب أن تدفعي ثمنه
- كم ثمنه؟
- عشر ون ليرة…
- عشرون.. هذا أكثر من مصروفي بكثير..
في الحقيقة كان هذا الرقم ضعف ثمن الإبريق..لكنني وقتها لم أعرف، لم أعرف أيضاً أن الإبريق كان مكسوراً من قبل و أن طه سيستمر في استخدامه…
بقيت أياماً طويلة أدفع مصروفي يومياً ل طه.. و لم أخبر أحداً.. في كل يوم أعطيه المصروف يقول لي: بقي كذا.. لم أخبر أهلك و لا الجيران…
هكذا استغل ذلك الجشع جهلي في نذالته و سذاجتي حول مفاهيم الخطأ البشري…
كنت في ذهني الطفل أعتقد أن كسر ذلك الأبريق مشكلة المشاكل، و أنني كنت غير مسؤولة عندما ارتطم الأبريق بالمعدن.. و في أحيان أخرى اعتقدت أن طه هذا حيوان لأنه لم يفكر عندما وضع إبريق الحلوى على براد المثلجات، و عندما تركني أنتظر و أعطى دوري لكثير من الجيران…
بعد أن دفعت كامل ثمن الإبريق، بقيت تعيسة، أحس أنني كسرت الإبريق، و أنني حملت همه لوحدي.. كنت أسأل نفسي: لماذا أخذ ثمنه إن كان سيلصقه و يعيد استخدامه؟
بعد ذلك بأسبوع أخبرت أمي.. و ما أدراكم ما أمي؟ .. أمي أشبهت كل لبوّة تلّم صغارها وسط أعاصير و عواصف…
نظرت إليّ بحزم و حنان معاً:
- لماذا لم تخبريني؟ هذا النصّاب الغول.. كل الناس تكسر الأشياء ما المصيبة في ذلك؟
عندها فقط ارتحت…
دخلت أمي دكانة طه بخطواتها الواِثقة:
- أين الإبريق الذي كسرته ابنتي؟
تلعثم طه.. أهّل و سّهل، لكن الأوان كان قد فات.. فالمعلمة التي حؤلت كثيرين من الكسالى إلى شطّار، و درّست الأخلاق قبل العلم، أعطته درساً في الخلق.. و عندما أعاد إليها العشرين ليرة، رمتهم في وجهه:
-إن سمعت أنك أخذت فرنك واحد من طفل في الحارة سأخبر الشرطة.
بعدها زادت ثقتي في نفسي ضعفاً.. و تعلمت من إبريق الحلوى دهراً من السكر!
*******
إبريق الحلوى لم يكن مجرد إناء زجاجي، كان كناية عن أخطائنا البشرية التي يضخمها السفلة، و يستغلونها، فيسرقون من عمرنا و من قوتنا.
أن نقبل بشريتنا وعي كبير، أن نتعلم من أخطائنا وعي أكبر.. و الأحلى أن ننظر في عيون من حولنا، و نختار الأمان.. فنصادق فقط من يحمل في ضميره صوت أمهاتنا و نظراتهنّ…
لا ملائكة على هذي الأرض.. بل أطفال و أمهات.. هذه الذكرى إليكنّ جميعاً…